شمس الشموس
  آداب الذكر
 


من رسائل مولانا خالد البغدادي النقشبندي

بيان نبذة من آداب الذكر


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد. فهذه فائدةٌ في بيان نبذة من آداب الذكر وغيره عند السادة السنية النقشبندية، قدّسَ اللهُ أسرارَهم العلية.

 

اعلم أن آداب الذكر الأول، أعني اسم الذات بالقلب، أن يجلسَ الذّاكِرُ على ركبتيه، متورّكاً بعكسِ تورّك الصلاةِ، بأن يخرجَ قدمَ الرجل اليمنى من تحتِ ساق الرجل اليسرى، ويعتمد على وركه الأيمن، متوضئاً مستقبلاً للقبلة، ويقول بلسانه: أستغفر الله، أما خمساً أو خمسَ عشرة أو خمساً وعشرين، ويغمض عينيه، لاصقاً الأسنانَ بالأسنانِ، والشفةَ بالشفةِ، واللسانَ باللهات، أعني سقفَ الفم، موجهاً جميعَ حواسه إلى القلبِ، مدققاً النظرَ الخيالي بالنفوذِ إليه، منطلقَ النفسِ على حاله، ثم يخطر بقلبه أنه مذنبٌ مقصرٌ، غير قابل لشيء، خالٍ من الأعمالِ الصالحةِ، بحيث ييأس من أعماله، ويتكل على الله، ويعول على فضله، ثم يلاحظ الموتَ وأحوالَه، والقبرَ وأهوالَه، وكأنّ الموتَ قد دخل به الآن، وأنّ هذا آخر أنفاسه من الدنيا، ثم يقرأ فاتحة الكتاب مرة، والإخلاص ثلاث مرات بلسانه، ويهدي مثل ثوابها إلى حضرة إمام الطريقة، وغوث الخليقة ذي الفيض الجاري والنور الساري، الخواجة بهاء الدين نقشبند، الشيخ محمد الأويسي البخاري، قدّس سره العزيز، ويستمد بالقلب منه، ثم يقرر صورة حضرة مولانا الشيخ، قدّس سره العزيز، بين حاجبيه، أعني الناصيةَ، ويعمّق النظرَ من ناصيته إلى ناصية الشيخ، قدّس سره، ويستمد في القلب منه، وهذا التقرير والتصوير يسمى (رابطة). ثم يطرحُ الصورةَ بالخيالِ في وسط قلبه، ويدعها، ويجمع كلَّ حواسه إلى القلب، ويتصور بفراغِ البالِ فيه، معنى اسم الجلالة، ومدلول كلمة (الله)، وهو ذاتٌ بلا مثل الذي يفهم من الاسم الأقدس، ويجعل قلبَه مملوءاً بتذكّر المعنى المدلول، وهذا الجعل يسمى (وقوفاً قلبياً)، ولا بد من وجوده في جميع أوقات الذكر، وفي خارجها ما يتيسر، وهو الركن الأتم للذكر، والمحطة لفائدته. ثم مع الوقوف يقول بلسان القلب: "اللهم أنتَ مقصودي، ورضاك مطلوبي"، ثم يشرع في ذكر الله تعالى بالقلب، لكن مع الوقوف القلبي المذكور، وتفريغ القلب من الخَطراتِ مهما أمكن، وبين كل مائة، أو أقل، يكرر قوله: "اللهم أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي". وإذا حصلتْ للذاكر غيبةٌ وذهولٌ عن الدنيا، وتعطّلتْ حواسُه، ومع بقاء قليل شعور بنفسه، يترك الذكرَ، ويبقى تابعاً لتلك الكيفية، مستغرقاً في الوقوف القلبي، منتظراً لوارد الورد، ومستحضراً قلبَه لنزولِ الفيضِ، إذ قد تفيض عليه تلك المدة اليسيرة أمورٌ غزيرةٌ، وإن لم يدركها. ثم إن شاء بها، يفتح عينيه، ويوسِف لنفسه وقتاً قدرَ ساعة، أو أقل بعد العصر يشتغل فيه بالرابطة مع الوقوف القلبي من غير ذكر. وإذا ارتسخ الذكرُ، بحيث لو تكلّف الذاكرُ بإحضار الغير، لم يخطرْ، انتقل ذكْرُه إلى الروحِ، وهي لطيفة تحت الثدي الأيمن، ثم إلى السر، وهو في يسار الصدر، فوق القلب، ثم إلى الخفي، وهو في يمينه فوق الروح، ثم إلى الأخفى، وهو في وسط الصدر. وهذه اللطائفُ الخمسُ من عالم الأمر الذي خلقه الله تعالى بأمر (كنْ) من غير مادة، وركبها مع لطائف عالم الخلق الذي خلقه الله تعالى من مادةٍ، هي النفس الناطقة والعناصر الأربعة، ثم إلى هذه النفس، وهي في الدماغ، والعناصر الأربعة تندرج فيها، وكل من هذه المحال، محل ذِكْرٍ على الترتيب، وكذلك الرسوخ لما بعد القلب من اللطائف على الترتيب المذكور. فإذا ارتسخَ الذّكْرُ في لطيفةِ النفس، حصل سلطانُ الذكر، وهو أن يعمَّ الذكرُ على جميع بدن الإنسان، بل على جميع الآفاق.

 

وأما الذكر الثاني المسمى بالنفي والإثبات بكلمة (لا إله إلا الله) الملقن للمريد، بعد اللطائف، فكيفية آدابه، أن يلتصقَ اللسان كالأول، ويحبس النفسُ تحت السرة، ويتخيل منها (لا) إلى منتهى الدماغ، ومنه (إله) إلى كتفه الأيمن، ومنه (إلا الله) إلى القلب الصنوبري الشكل، وهو المُضغة التي في الجانب الأيسر تحت أصغر عظم من عظام الجنب، ضارباً عليه منفذاً إلى قعره بقوةٍ، يتأثر بحرارته جميعُ البدنِ، وينفى بشق النفي، وجود جميع المحدثات، وينظرها بنظر الفناء، ويثبت بشق الإثبات ذات الحق سبحانه وتعالى، ناظراً إليه بنظر البقاء، فيحيط على محال اللطائف، ويلاحظ الخطّ الحاصل من الانتقالات، ومعناها (أي الكلمة الطيبة) من نفي المعبودية، لأن كل معبود، مقصود، ولا عكس، ويقول في آخرها بالقلب: "محمد رسول الله"، ويريد به التقيّدَ بالإتباعِ، ويكررها على قدرِ قوة النفس، ويطلقه من الفمِ على الوتر المعروف عندهم بالوقوف العددي، ويقول بقلبه أيضاً، قبل إطلاق كل نفس: "اللهم أنتَ مقصودي، ورضاكَ مطلوبي". فإذا استراح، يشرع في نفس آخر، لكن يراعي مابين النفسين، بأن لا يغفلَ فيه، بل يبقى التخيّلُ على حاله، لئلا يختلَّ الاستمرار. فإذا انتهى العددُ إلى أحد وعشرين، تظهر النتيجةُ، وهي النسبةُ المعهودة من الذهول والاستهلاك. وإن لم تظهرْ، فمما وقع من الإخلال في الآداب، فليستأنفْ. وليطابق الفعل القول مضمون الذكر عملاً واعتقادا وإتباعاً، فإن المقصودية به فيما سواه، إذا كانتْ باقيةً، أو خلاف الإتباع في شيء كان ثابتاً في الواقع، لزم الكذب، فليس بصادق، ولا حصر في العدد. فمَنْ يستعد لتقدّم الجذبة، فله (الذكر الأول). ومن يستعد لتقدم السلوك، فله (الذكر الثاني) وكلاهما بالقلب. فإذا جاهد فيه حقَّ الجهاد، وانتفى المنفي، وثبت المثبِتُ، وظهرتِ النتيجةُ، تصح له المراقبة حينئذ.

 

وأما الآداب خارج الذكر: فدوام الوضوء، وصلاة سنة الوضوء والإشراق والاستخارة والضحى والأوابين والتهجّد وملازمة الجماعة والرواتب وإحياء مابين العشاءين بالذكر. فإنْ ضمَّ ذلك إلى ما بعد العصر، واشتغل بالذكر والرابطة، كان أتمَّ وأكملَ. والعمل في ذلك كله مهم وعليه (أي المريد السالك) بإتباع الكتاب والسنة وإماتة البدعة. والمكتسب الغير المجرد، لا ينقص ورده عن خمسة آلاف في اليوم والليلة، وما زاد فهو أتم. والمجرد يطلب منه الإكثار على ذلك العدد، واستغراق أوقاته في الاشتغال بها مهما أمكن. والاعتزال عن غير المعتقدين بالطريقة مهما حصل يكون أحسن، إذ مخالطة المنكرين على أهل الباطن، تورث قسوةً في القلب على قدرها. ا.هـ

 

 

 

 

الرقعة الأولى

 

إلى مقام النبي صلى الله عليه وسلم

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المعروض من العبد المذنب الظالم لنفسه، المتناسي عما يجرؤ عليه في غده وما اقترفه في أمسه، خالد، إلى سدة مركز دائرة السعود، وسبب إيجاد كل موجود، وصاحب المقام المحمود، وينبوع الكرم والجود، سيد الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، قائد الغر المحجلين، النبي الهاشمي الأبطحي اليثربي العربي القرشي عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليمات عدد معلومات الله في كل بكرة وعشي ـ إن العبد الفقير المسكين، والمجرم الحقير المستكين، لازال يترقى في العثرات يوماً بعد يوم، ويحمل أوزار الرعايا والبرايا قوماً بعد قوم، فلا يوفق لترك الكل حتى يطوى البيد إلى هاتيك الحضرة العلية بالرأس دون الأقدام، ولا يؤيد لاتباع شريعتكم الغراء، وإحياء سنتكم السنية البيضاء بالتمام، ولا يستعد بترك الظلم وبسط بساط العدل ليستريح بسببه الأنام، ويرضى عنه الرب المهيمن العلام، ويسر به ذلك الجناب عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام.

 

ظلمت سنة من أحيا الظلم إلى *** أن اشتكت قدماه الضر من ورم

 

فواحسرتا على ما فرطت في جنب الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإلى من أشكو سوء حالي سوى ذلك الجناب، ولدى من أبث ما أنا فيه من الاضطراب، وأنت خليفة الله على عباده، وهادي الأنام إلى سبيل سداده، ومغيث كل متحير وقائده إلى رشاده، وغوث كل مضطر وموصله إلى مراده، فالمرجو إما التخلص من هذه الورطات والتوجه مع الإخلاص إلى أرض الحجاز، (ومن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز)، وأما الإمداد إلى العدل والإنصاف، وخفض الجناح والانتصاف وترك البدع والاعتساف، وإلا فها أنا منكوس الرأس بين يدي ربي يوم القيامة، ومتيقن للندم حين لا تنفع الندامة، وصلى الله عليكم وعلى أخوانكم النبيين، وعلى آلكم وصحبكم أجمعين، بداء كل كلام وختام.ا.هـ

 

 
  3089836 visitors