كادَ معاوية رضي الله عنه يطير فرحاً عندما وصله جواب الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه يأذن له بغزو البحر، أي بتأسيس قوة بحرية عسكرية للمرة الأولى في الجيش الإسلامي، ولطالما انتظر أمير ولاية الشام «معاوية» هذا الإذن؛ فقد ألحّ على الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه فلم يأذن له حرصاً على أرواح المسلمين الذين لم تكن لديهم الخبرة في هذا المجال، وكتب إليه يجيبه: «... وتالله لَمسلمٌ أحَبُّ إليّ مما حَوَت الرومُ، فإياك أن تَعْرِض لي، وقد تقدمت إليك»(1).
وقد وقع ما كان يحذره معاوية من خطر الروم بناء على سيطرتهم على البحر الأبيض المتوسط؛ فقد أعادوا احتلال الإسكندرية سنة 25هـ. وتأكد له أنه لا بد من السيطرة على البحر لحماية الثغور، وتمهيداً لفتح أوروبا خاصة القسطنطينية التي بشّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يَزَل بعثمان يكرِّر الطلب حتى أَذن له، لكن بشرطين:
1. أن يشارك معاوية شخصياً وأفراد أسرته ليطمئن الخليفة عثمان إلى كون هذه الخطوة آمنة.
2. ألاّ يُلزم أحداً مِن جنود المسلمين بالمشاركة في العمليات البحرية، بل يخوضها المتطوعون.
وكَلَمْح البصر أصدر معاوية قرار استكمال صنع سُفن «الأسطول الإسلامي الأول» في دار الصناعة بميناء طرابلس(2)، حيث تتوافر أخشاب الصنَوْبر اللبناني القويّ والبلوط والعرعر التي تصلح لبناء السفن، بالإضافة إلى استصلاح السفن التي غَنِمها من البيزنطيين. وعندما أُنْجز المشروع فَتَح باب التطوع سنة 28هـ = 649م(3)، فبادر لذلك المسلمون رجالاً ونساءً نَيْلاً لشرف البِشارة النبوية التي أُطلقَتْ من بيت الصحابية أم حَرَام بنت مِلحان رضي الله عنها التي رَوَتْ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم«استيقظ من قيلولته نهاراً وهو يضحك، قالت: يا رسول اللَّه، ما يُضْحِكُكَ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «عَجِبْتُ من قوم من أُمَّتِي يركبون البحر الأخضر، كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتِ مَعَهُمْ». ثُم نام، فاستيقظ وهو يضحك فقال مِثْلَ ذلك مرتَيْن أَوْ ثلاثًا. قُلْتُ: يا رسُولَ اللَّهِ، ادعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعلَني مِنهم. فقال صلى الله عليه وسلم: «أنتِ من الأَوَّلِينَ». فتزوج بها عُبادَةُ بنُ الصَّامت، فخرجتْ مع زوجها غَازِيًا أوَّلَ ما رَكِبَ المسلمون البحر مع معاوية»(4).
وقد أمَّر معاويةُ على البحر عبدَ الله بن قيس الجاسي فأبحر مِن ميناء عكّا قبل صلاة الجمعة بأسطول مكوّن من نحو 120 سفينة، فرسَوْا على ساحل قبرص وأغاروا عليها حتى اضطروهم إلى طلب الصلح من معاوية الذي أجابهم إليه بشروط؛ أهمها: ألاّ يقاتلوا المسلمين، ولا يعاونوا الروم على ذلك، بل عليهم أن يبلّغوا المسلمين بما يهدِّد أمنَهم من تحركات الروم، وأن يعيِّنَ المسلمون عليهم قائداً من أنفسهم، وأن يدفعوا الجزية(5).
وكان معظم المشاركين في هذه الحملة الأولى من الصحابة كما يقول الحافظ ابن حجر. وقد حُفظ من أولئك الصحابة: عبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام بنت ملحان، ومعاوية بن أبي سفيان، وأولاده، وزوجته فاختة بنت قرظة، وغيرهم.
وفي طريق العودة إلى بلاد الشام قُدِّمت لأم حرام دابة لتركبها إلى المرفأ، فحاصت الدابة فسقطت عنها على عنقها فماتت شهيدة رضي الله عنها. وهكذا تحققت النبوءة الصادقة للرسول صلى الله عليه وسلمفشاركت أم حرام مع «الأوّلين» واستُشهدت بُعيد المعركة فلم تشارك في الغزوات التالية! «ولا يزال قبرها حتى الآن في مدينة (ليماسول) القديمة القريبة من مدينة لارْنَكا، والمسلمون الأتراك يعرفون قبرها ويسمّونه: قبر المرأة الصالحة»(6).
ولا شك أن في هذا الحديث مفخرة لأم حَرام (أخت أم سُليم، وخالة أنس بن مالك) التي أعطت نموذجاً للمرأة المسلمة الطَّموحة الشجاعة المستعدة للتضحية في سبيل الله حتى الشهادة، متطوعة مع زوجها في الجيش للأعمال اللوجستية دون تفريق بين البر والبحر. ومما يؤكد تعلق أم حرام بالجهاد روايتها لأحاديث فضائله خاصة غزو البحر؛ فقد سَمِعَت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أمَّتِي يَغزونَ البحر قد أوْجَبُوا». قالت أمُّ حَرَامٍ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ أنَا فيهم؟ قال: «أنتِ فيهم». ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أولُ جيشٍ من أمَّتي يَغْزُونَ مدينةَ قيصرَ مغفورٌ لهم». قالت: فقلتُ: أنا فيهم يا رسول اللَّهِ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ»(7).
وقد حَقَّق المسلمون بأسطولهم الناشئ نصراً مذهلاً على الأسطول البيزنطي التليد الذي طالما سيطر على حوض البحر الأبيض المتوسط (أو البحر الأخضر كما يسميه رسول الله صلى الله عليه وسلم) في معركة ذات الصواري، بـ200 سفينة فقط أبحرتْ مِن طرابلس مقابل 2000 سفينة بيزنطية في معركة عظيمة يضيق مثل هذا المقال عن تفاصيلها.
كما كانت مدينة صيدا منطلق الأسطول الإسلامي الذي فتح جزيرة رودس سنة 33هـ.
وبهذا تتضح الأهمية الإستراتيجية لساحل بلاد الشام خاصة لبنان، ودوره في انطلاق الفتوحات إلى جزُر البحر الأخضر وأوروبا.
ــــــــــــــــــــــــ
· هوامش:
1. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مستهل أحداث عام 28هـ.
2. د. عمر تدمري، الصحابة في لبنان، ص 163.
3. هذا التاريخ الذي صححه الحافظ ابن حَجَر في «فتح الباري» عند شرح حديث أم حرام الآتي.
4. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب رُكُوبِ البحر، الحديث رقم: 2932، ورواه مسلم أيضاً، وغيرهما.
5. كثير من التفاصيل المتناثرة من كتاب د. عمر تدمري: لبنان من الفتح الإسلامي حتى سقوط الدولة الأموية، من ص 57 إلى 61، وغيرها.
6. د. تدمري، الصحابة في لبنان، ص 160. ونقل عن الرحالة الهَروي أنه رأى قبرها.
7. رواه البخاري، 112، كتاب الجهاد والسير، باب مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّومِ.