شمس الشموس
  الرفيق قبل الطريق
 

بسم الله الرحمان الر حيم

الرفيق قبل الطريق



في صباح يوم 19 أكتوبر عام 2002م غادرت سوية مع إمام المسجد الحاج أبصار الداغستاني موسكو جوا متوجها إلى اسطنبول. وكنا نعتزم التوجه في اليوم نفسه بمعونة الباري من اسطنوبل إلى قبرص.. إلى غيجيت قلعة.. ومنها إلى مدينة ليفكو حيث يعيش الشيخ محمد ناظم القبرصي. وهذا ما حدث. وفي غيجيت قلعة عرف سائق سيارة الأجرة حتى بدون مترجم أن مرادنا هو زيارة الشيخ ناظم. ومنذ تلك اللحظة شعرنا بالرعاية الدائمة للشيخ ناظم وحمايته وحضوره معنا دون أن نراه.

وصلنا إلى ليفكو في وقت متأخر من الليل. ولم نكن نعرف فيما إذا كان الشيخ في المكان. لكن ساورنا إحساس داخلي يقينا بأننا لم نطرق درب الله عز وجل عبثا. وصلنا ليلا واستقر بنا المقام في الفندق لرغبتنا في عدم إزعاج الشيخ. فأدينا الصلاة وخلدنا إلى النوم بطمأنينة وهدوء كالأطفال. وراودني حلم بأننا: "كنا نتوجه، أنا والحاج أبصار، إلى بيت الشيخ، وكان يقوم على مرتفع ولا توجد إلى جانبه بيوت ومنشآت أخرى، باستثناء لافتة صغيرة مضيئة بأحرف عربية من مصابيح النيون.

لم أكن أعرف اللغة العربية، لكنني أحسست بأنه كتب هناك أحد أسماء الله الحسنى. وشاهدت بابا خشبيا مغلقا. ولا أدري كيف ولجنا الباب إلى البيت فوجدنا أنفسنا فجأة في غرفة فيها الكثير من الرفوف العامرة بالكتب. يبدو أنها مكتبة الشيخ. وأمسك الحاج أبصار بيديه كتابا جميلا. ثم أخذ يتناول من الرفوف كتبا أخرى مماثلة وجميلة ويتابع ما فيها من نصوص".

حين استيقظت في الصباح رويت لصاحبي حلمي، ورسمت في الهواء الحروف التي رأيتها على غلاف أحد الكتب في حلمي. واستغرق الحاج أبصار في التفكير دون أن ينبس ببنت شفة.

وقبيل صلاة الظهر أخذنا سائق سيارة الأجرة إلى بيت الشيخ.

دخلنا الفناء الذي نصبت فيه موائد يقدم فيها الطعام إلى ضيوف الشيخ، ووجدنا المصلى الكبير حيث تؤدى فريضة الصلاة، والغرفة الصغيرة – هي غرفة مكتب الشيخ الذي يستقبل فيه الضيوف. إنها جميعا تتسم بالبساطة والتواضع. وتحشد في الفناء عدد كبير من الناس. ولوحظ أنهم جاءوا إلى هناك من مختلف أنحاء الأرض. ويمكن أن يأتي إلى هناك كل من يرغب في ذلك دون اعتبار لعرق أو قومية أو دين. فالشيخ يستقبل الجميع.. وتغمر بركات الشيخ كل إنسان يصبو إليه صادقا. ويكفي أن تتوفر لديه الرغبة ويأتي فحسب.

إن الشيخ مثل المنار في المحيط الذي تسترشد به السفن. والشيخ مثل النور وسند كل روح ويرتقي بالكائن الفاني إلى درجة الملائكة. والشيخ قادر على استكناه أسرار الطبيعة ورؤية المخفي في الدنيا.

وعندما أتينا إلى الشيخ أدركنا بأن الله تعالى غمرنا برحمته. فقد حالفنا التوفيق في حضور اجتماع كبير للشيوخ من كافة أنحاء العالم، الذين جاءوا للعبادة إلى جانب المرشد الشيخ الأكبر محمد ناظم القبرصي في ليلة تمنح فيها التبريكات.. وفي هذه الليلة يبتعد عن الجنة من ارتكب المعاصي من الناس، بينما يبتعد عن جهنم أهل الخير والمعروف. وكان بين الضيوف من جاء من أمريكا وفرنسا وبريطانيا والهند وباكستان وألمانيا.. وعدد الحاضرين لا يعد ولا يحصى. وكان جو الاحترام والطيبة المخيم على المكان يخلب الأفئدة ويسمو بالروح. ورأينا حوالينا وجوها مستبشرة وعيونا مفعمة بالعطف والمحبة الأخوية. وكنت أفهمهم خير فهم بالرغم من أنني لم أكن أعرف اللغات التي كانوا يتحدثون بها. وأخذت أفكر ما هو الذي قرب ما بيننا رغم اختلافنا؟ ولماذا يخالجني هذا الشعور بأنني أعرف هؤلاء الناس منذ القدم؟ ولماذا تتملك روحي محبة غير عادية وسماوية إزاء كل ما أراه وأسمعه؟ولفت الانتباه على الأخص شاب طويل القامة. كان يطهو الطعام للجميع، لكن بات جليا للعيان بأن هذا الإنسان بلغ آيات المعرفة والروحانية. وقدم لنا الشاب الشاي. وفي أثناء احتساء الشاي لاحظت على الأرض ورقة بنكنوت من فئة كبيرة. فأبلغت بذلك الحاج أبصار وقام بدوره بلفت انتباه الشاب الطويل القامة. فرفع هذا ورقة البنكنوت ومزقها إربا إربا ورماها إلى دلو القمامة. وصار عندئذ يقول شيئا ما باللغة الإنجليزية.

وأكد الحاج أبصار ما دار في خلدي من أفكار، موضحا بأنه توجد هناك قيما لا تشترى بكل نقود العالم، وهذا ما قاله الشاب. وتبين فيما بعد بأنه شيخ جاء من الولايات المتحدة.

وفيما كنت أمعن الفكر فيما حدث حان موعد صلاة الظهر. وتردد في ليفكو صوت المؤذن داعيا الناس إلى الصلاة وإلى الخلاص. وتوجه الجميع إلى المصلى لأداء فريضة الصلاة. وبعد ذلك أطلقت صفارة وظهر الشيخ الأكبر محمد ناظم القبرصي زعيم الطريقة النقشبندية، المستنير بالمعرفة والحكمة، ورفيق الأرواح النيرة على الأرض وكذلك الذين انتقلوا إلى الدنيا الآخرة، والمرتبط بسلسلة ذهبية مع المرشدين والرسل ولهذا فهو يتمتع بالقدرة على استقبال شعاع النور المار عبر هذا السيل، والذي ينتقل بواسطة رعيل المعلمين، أطال الله عمره. كان يمشي متكئا على عصا، علاوة على ذلك كان هناك من يسنده بذراعه، نظرا لكبر سنه حيث تجاوز الشيخ سن التسعين عاما. لكن عينيه كانتا صافيتين كعيني طفل ومفعمتين بالمحبة والطيبة.

وبعد صلاة الظهر التي تولى الشيخ الإمامة فيها حذوت حذو الحاج أبصار فأبديت للشيخ احترامي وقبلت يده. وطلب منا الجلوس إلى جانب الشيخ فجلسنا إلى يمين الرجل الوقور.

وبعد ذلك ألقى الشيخ موعظة باللغتين التركية والإنجليزية وسجلت على شريط الفيديو. وعقب ذلك وجد الحاج أبصار لحظة مناسبة وقدم إلى الشيخ كهدية مصحفا جميلا مطعما بالذهب باسم المعجبين به في روسيا. فقام الشيخ وقبل المصحف الشريف باحترام ثم قال إنه وجد في بعض طبعات القرآن الكريم سقوط حرف "ل" مما جعل ثلاث آيات تبدو كآية واحدة. وبعد فحص نسخة القرآن التي جلبناها جرى العثور على هذا الحرف وسط ابتهاج الحاضرين الموقرين. وعندئذ قبل الشيخ المصحف الشريف مرة أخرى باحترام.

وعندما اختلى الشيخ في مكتبه جرت دعوتي والحاج أبصار للانضمام إليه. فاستفسر الشيخ منا بإسهاب عن رحلتنا وكيف وصلنا واستقر بنا المقام. وعندما عرف بأننا نزلنا في فندق قال إن من غير المعتاد أن يقطن ضيوفه في الفنادق وأمر باستدعاء سائق سيارة الأجرة الذي جاء بنا. وتبين بأنه من غير أبناء البلدة وقد رحل مما أثار ارتياحنا.

وبعد ذلك تحدث الشيخ بالعربية مع الحاج أبصار وسأل عن معارفه. وعندما علم الشيخ بأنني آفاري تحدث معي باللغة الآفارية. وروى أنه درس حوالي 30 عاما على يدي مرشد ينتمي إلى قرية قيقوني الآفارية. وبعد ذلك أرانا صورة السلسلة الذهبية للشيوخ الذين صعدوا إلى جوار النبي (ص) وصورة فوتوغرافية بدأ فيها مرشده والى جانبه الشيخ الأكبر محمد ناظم القبرصي. وبعد أن تعرفنا على الشيخ حدثنا عن رغبتنا في بناء مسجد على القمر تكريما لاسم الخالق الأوحد لجميع أهل الأرض فبارك الشيخ نوايانا. واختتم اللقاء معنا بالدعاء من أجل أن تتحقق مقاصدنا.

ودعنا الشيخ باحترام. وفي الفناء ودّعنا الباقين الذين تآخينا معهم في هذه الفترة.

وحين جاء الدور لتوديع الشاب من أمريكا قبل يديّ. وكان ذلك مفاجأة كبيرة بالنسبة إليّ. وفيما بعد أجاب الحاج أبصار عن تساؤلي أجاب بقوله: "هذا الأمر لا يناقش. وأفعال الشيوخ لا تتفق دائما مع منطق الإنسان العادي... وسيأتي الوقت والساعة حين سنعرف ما كان قصده من ذلك".

سعى سائق سيارة الأجرة الذي جرى استدعاؤه مسبقا بأمر من الشيخ إلى أن يرينا جميع المعالم المهمة في أطراف ليفكو وعاد بنا في المساء عند صلاة العشاء موضحا بأنه لا يستطيع أن يأخذنا إلى المطار بدون موافقة الشيخ مهما كنا في عجلة من أمرنا. واستقبلنا الشيخ مرة أخرى. وحتى التقطنا الصور الفوتوغرافية معه. وبعد ذلك أعطونا أرقام الهاتف والعنوان الإلكتروني من أجل الاتصال مع الشيخ إذا ما انبثقت أسئلة إليه وأردنا طلب مشورته.

وأدينا صلاة العشاء أيضا وراء الشيخ الأكبر محمد ناظم القبرصي أدامه الله. فتلا ثلاث مرات سورة يس. وبعد كل مرة كان يلهج بالدعاء. والحق أن الله وحده يعرف ما نكسب وما نفقد. وكان الخالق تعالى رحيما بنا. وحصلت أنا والحاج أبصار على الخير والبركة العظيمة.

وبعد وجبة العشاء المشتركة فقط باركنا الشيخ محمد ناظم القبرصي لشد الرحال في الطريق البعيد وأمر السائق بأن يبلغه هاتفيا بعد أن يوصلنا إلى المطار.

لقد أبدى الشيخ تجاهنا العناية والرعاية للغاية. وحملت في أعماق قلبي ألق صورته التي انطبعت في روحي. وسبحان الله العظيم الذي وضع فوق ذروة جبروته في الأرض خاتمة إبداعه أيالإنسان.

أسد الله علي

23 أكتوبر، 2002م،

 

 
  3100301 visitors