شمس الشموس
  غلام علي عبد الله الدهلوي
 

بسم الله الرحمان الرحيم

مولانا الشيخ غلام علي عبد الله الدهلوي


مقام الشيخ غلام علي عبد الله الدهلوي

"شيخ مشايخ السادة النقشبندية، وأستاذ أهل الطريقة الفاضلة العلية، وهو من رجال الحدائق الوردية، في حقائق أجلاء النقشبندية. فقال شاه العارفين، ومليك المرشدين الكاملين، مظهر علوم الدين، ومظهر سر الهداية واليقين، المحقق بمقام التلوين في التمكين، شيخ مشايخ الديار الهندية، ووارث المعارف والأسرار المجددية، سباح بحار التوحيد، سياح قفار التجريد، قطب الطرائق، وغوث الخلائق، ومعدن الحقائق. نال قدس الله سره من العلوم الإلهية ما نال، ومن المقامات العلية ما لا يخطر ببال. وذلك أن هذا العزيز، بعد ما بلغ سن التمييز، أكب على تحصيل الفضائل، والتحلي بأحسن الشمائل، حتى صعد بهمته إلى سماء علوم الرسوم، فتناول من ثرياها أعظم النجوم، إلى أن أصبح في كل علم إماماً، فزاد إقداماً على الترقي في المعالي واهتماماً، فصعد النظر إلى قمر المعارف، فرأى نوره مستمداً من شمس أستاذه العارف، فقصد على جنائب العزم جنابه، ويمم بالهمم الكبار رحابه، فأقبلت به نسمة القبول، على حرم مراحم الوصول، إلى ذلك المقام المأمول، مقام المرشد العظيم، فحنا عليه بقلبه السليم، حنو المرضعات على الفطيم، وجعل يمده بمدده الروحاني، ويربيه بنفيس نفسه الرحماني، ويرقيه إلى مدارج الأخيار، ويقيه أغيار الأغيان وأغيان الأغيار، حتى إذا جذبه إلى مقام حق اليقين، وانتهى به إلى سدرة منتهى المقربين، عاد إلى عالم الشهادة وقد خلع عليه خلع السيادة، وأصبح من غيث إحسانه غوث زمانه، وعهد إليه بعده بإرشاد المسترشدين عنده، فوفى عهده، وصدق وعده، وكان خير خلف، لأشرف سلف. قام بتأييد الشريعة المحمدية، وتجديد معالم السنة السنية، وأداء حقوق الحقائق، وإحياء جميع الطرائق، القادرية والسهروردية الكيروية، والجشتية والنقشبندية، رافعاً لواءها بين الخلائق، فأقبلت القلوب تستظل بظله، ولبت الألباب نداء فضله، وانتهت إليه رتبة الإرشاد، ورحلت إليه الأبدال والأوتاد، فنال ببركته كل مريد أقصى المراد.

شذرة من خبره وذرة من أثره


ولد قدس سره عام ثمان وخمسين ومائة وألف في قصبة بتاله ضلع بنجاب وجاء تاريخ ولادته مظهر جود وهو من آل البيت الكرام غير أني لم أقف على نسبه الشريف. وكان والده الشريف الشاه عبد اللطيف عالماً عارفاً صالحاً زاهداً كبير الشأن قادري الطريقة، تلقاها عن العارف الكبير الفائز بصحبة الخضر عليه السلام الشاه ناصر الدين القادري قدس سره، واشتغل بالرياضات الشاقة والمجاهدات التامة.

وكثيراً ما كان يخرج إلى الصحراء فيذكر الله تعالى ويتغذى بالنبات بقي مرة أربعين يوماً لم يكتحل طرفه بنوم، ولم يذق الطعام إلا ليلاً قليلاً، ومع ذلك لم ينو الصيام مقاومة لرعونة نفسه، وكان له انتساب أيضاً للطريقة الجشتية والشعارية، ورأى والده في منامه قبل ولادة الشيخ قدس الله سره سيدنا علياً كرم الله وجهه فقال له: سم ولدك باسمي فلما ولد سماه علياً، إلا أن لما بلغ قدس الله سره سن التمييز سمى نفساً تأدباً غلام علي، ورأت أمه في المنام رجلاً جليلاً يقول لها: سميه عبد القادر، قال مترجمه الشيخ عبد الغني المعصومي: ويمكن أن يكون هذا العزيز هو الغوث الجيلاني رضي الله عنه وسيأتي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه في المنام عبد الله.

وكان قدس سره في الذكاء آية باهرة، حفظ القرآن المجيد في شهر واحد، وأكب على تحصيل العلوم معقولها ومنقولها، حتى أصبح عالم عصره. وكتب المترجم في بيان أحوال نفسه فقال: إني بعد تحصيل علم الحديث والتفسير تشرفت في أعتاب حضرة الشهيد قدس سره، فبايعني على الطريقة العلية القادرية بيده المباركة، ولقنني الطريقة العلية النقشبندية فتشرفت بالحضور في حلق الذكر، والمراقبة عنده خمس عشرة سنة حتى تفضل على هذا الحقير بالإجازة المطلقة في الإرشاد العام، وقد ترددت أول الأمر في أنه هل يرضى الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه أن اشتغل في الطريقة النقشبندية أولاً، فرأيته في واقعة جالساً في مكان وحضرة الشاه نقشبند في مكان تلقاءه، فخطر لي حينئذ أن أحضر عند شاه نقشبند فقال الغوث الجيلاني في الحال: المقصود هو الله تعالى فاذهب فلا مضايقة، وكان لي جهة تعيش فتركتها، فاشتدت عرى الفاقة علي فاعتصمت بالتوكل واتخذته سجية، ولم يكن يومئذ عندي غير خلق حصير أفترشها، ولبنة أتوسدها، فبلغ بي الضعف أقصاه، فلفرط ما نالني أغلقت باب حجرتي، وقلت هذا قبري حتى يأتي الله بالفتح أو بأمر من عنده، فما لبثت أن فتح الله تعالى علي يد من لا أعرفه، فمكثت في زاوية القناعة خمسين سنة.

قيل: لما أغلق باب الحجرة وقال ما قال أدركته العناية الإلهية، فجاءه شخص وقال له: افتح الباب، فقال: لا أفتح، فقال له: إن لي معك شغلاً فافتح لي، فلم يفعل، فألقى له من خصال الباب جملة من الدراهم الهندية المعروفة بالروبية وذهب، فمن ذلك اليوم لم تنقطع الفتوحات عنه."

"ولما توفي شيخه حضرة الشهيد قام مقامه في مسند تربية المريدين وإرشاد الطالبين فأكب الناس عليه، وشدوا الرحال إليه، من أماكن بعيدة من الروم والشام والعراق والحجاز وخراسان وما وراء النهر، بل من أقصى أرض الخطا إلى غاية أرض المغرب، بعضهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كحضرة مولانا خالد والشيخ أحمد الكردي والشيخ إسماعيل المدني، وبعضهم بإشارة السادات كالشيخ محمد جان، والبعض برؤيتهم له في المنام. وكان موصوفاً بأعلى مراتب الأخلاق الحميدة، فمن السخاء بحيث كان يوجد في رباطه دائماً ولا ينقص عن مائتي مريد إلا قليلاً، وكان يقدم لهم كفايتهم على أتم وجه، ولم يدخر لغد قط، ومن الحياء والتواضع بأنه لم يضطجع ماداً رجليه أبداً، ولم ينظر وجهه في المرآة، وإذا دخل إلى داره كلب ليطعم شيئاً يقول إلهي من أنا حتى أكون واسطة بينك وبين أحبابك فأسألك بحرمة مخلوقك هذا وكل من قصدني إلا ما رحمتني وقربتي إليك. ومن التمسك بالسنة المطهرة ما لا يدرك شأوه، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لا يهاب معه الأمراء والملوك كما يعلم ذلك من مطالعة مكتوباته، حتى أنه لما حضر السيد إسماعيل المدني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحابه وأحضر معه بعض آثار نبوية بإشارة منه عليه السلام أن يضعها في المسجد الجامع الذي في دهلي، فوضعها، عرض ذلك إلى حضرة الشيخ، فقال له إنه وإن تكن بركات فخر العالم صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان محسوسة ولكن لا يخلو من ظلمة الكفر، ففتشوا ذلك المكان فإذا فيه صورة بعض الأكابر، فرفعوا الأمر إلى السلطان وأزالوا التصاوير منه.

وكان قليل النوم جداً، فإذا قام إلى التهجد أيقظ النوام ثم يتهجد ويجلس للمراقبة، ويتلو من كلام الله تعالى ما شاء. وكان ورده في كل يوم عشرة أجزاء ثم يصلي الصبح جماعة في وقت الغلس، ثم يلتفت إلى حلقة الذكر والمراقبة إلى وقت الإشراق. وكان رباطه لا يستوعب المريدين لكثرتهم، فلذلك كان يكرر الأذكار لطائفة بعد طائفة، ثم يجلس لقراءة الحديث والتفسير إلى قرب الزوال، فيتناول الغداء. وكان إذا أرسل إليه أحد الأغنياء طعاماً نفيساً لا يأكله بل يكره أيضاً أن يأكل منه المريديون، وإنما يهديه لجيرانه، ومن كان حاضراً عنده من أهل البلدة، وربما ترك أواني الطعام في مكانها فيأخذها من شاء فيأكلها. نعم لو أرسل إليه شخص دراهم ولم يكن مظنة شبهة يخرج أولاً زكاتها على مذهب الإمام الأعظم من جواز إخراج زكاة المال إذا بلغ النصاب قبول الحول، لأن صدقة الفرض أفضل من النفل، ثم يعمل فيما بقي حلواء وغيرها ويرسل بها إلى فقراء الشاه نقشبند، وفقراء والده، ويؤدي ما كان عليه من دين في نفقة رباطه، ويعطي من قصده من ذوي الحاجة، وربما يأخذ الشخص من هذه الدراهم شيئاً في حضوره فيطلع عليه ويعرض عنه بوجهه ولا يتعرض له. وكان بعد تناول الغداء يقيل قليلاً، ثم يشتغل بمطالعة الكتب الدينية والحقائق وغيرهما والتحارير الضرورية، ثم إذا صلى الظهر قرأ درسي حديث وتفسير إلى العصر، فيصلي ثم يقرأ حديثاً وتصوفاً كمكتوبات الإمام الرباني وعواف المعارف ورسال القشيري، ثم يجلس في حلقة الذكر والتوجه العام إلى الغروب، وبعد صلاة المغرب يتوجه لخواص السالكين، ثم يتناول العشاء حتى إذا صلى العشاء أحيا عامة ليله بالذكر والمراقبة، فإذا غلبه النوم اضطجع في مصلاه وربما نام وهو جالس ولم يعلم أنه مد رجليه لفرط حيائه كما تقدم. وكان لا يجلس إلا محتبياً كما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الأولياء كالغوث الجيلاني حتى توفي على هذه الحال. وكان حريصاً على إخفاء الصدقة فإذا فتح عليه بشيء يقسمه على الفقراء وهم في المراقبة لئلا يشعر أحد منهم بالآخر، وكان يلبس الخشن من الثياب، ولو أهدي إليه ثوب نفيس باعه واشترى عدة أثواب وتصدق بها، وهكذا في غير ذلك ويقول لأن يكتسي جماعة خير من واحد. وورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أخرجت يوماً إزاراً ورداء خشنين وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين.."

"وكان رضي الله عنه شديد الشفقة على المسلمين يكثر من الدعاء لهم وأكثر ما يكون في جوف الليل، وكان له جار يسمى حكيم قدرة الله يصرف أكثر أوقاته في غيبته، فحبس يوماً فسعى كل السعي في خلاصه ولم يذكر ذلك له، وكان مجلس المترجم كمجلس سفيان الثوري لا ترفع فيه الأصوات ولا تنتهك المحارم، مبرأ عن حديث الدنيا فلا يذكر فيه الأمراء ولا الفقراء، وقد استغاب بعض الحاضرين في مجلسه شخصاً فذكره وقال: أنا أحق بما قلته منه، ونال شخص في حضوره من سلطان الهند وكان صائماً فقال: وا أسفاه لقد فسد صومي فقيل له: أنتم ما ذكرتم أحداً بسوء، فقال: نعم ولكن سمعت، والذاكر والسامع في الإثم سواء، وكان عاشقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانياً فيه بحيث إذا سمع اسمه الكريم اضطرب وغاب. وقد أحضر له خادم أقدامه يوماً ماء للتبرك وقال له: أنت منظور رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتعد عند سماع هذا الكلام، ثم قام فقبل الخادم وقال له: من أنا حتى أكون منظور رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغ في إكرامه، وكان شديد الحرص على اتباعه صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله قوي التمسك بالسنة دؤوباً على مطالعة حديثه، حتى توفي وسنن الحكيم الترمذي على صدره، ولم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم فعل شيئاً إلا وتأسى به.

وكان له في القرآن المجيد ذوق عظيم، وكان كثير التلاوة له كثير المحبة لسماعه، وكان يحب سماعه من أحد خلفائه العظام الشيخ أبي سعيد المعصومي ويتأثر تأثراً بليغاً، فإذا ازداد من السماع اضمحل وتلاشى له، وقال: حسبي لا طاقة لي بأكثر. ويحب سماع أشعار القوم والمثنوي ويحصل له من ذلك وجد، غير أنه كان لثباته وكمال تمكنه لا يظهر عليه، ويقول: رقص أبو الحسين النوري يوماً والجنيد جالس قال: "إنما يستجيب الذين يسمعون" فقال الجنيد: "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب" فالجنيد كان في غاية الثبات. ومن جملة كلامه الدال على علو مقامه، قوله: إن التخلق بالأخلاق الحسنة واجب على كل أحد، وهي الحلم التواضع والشفقة والنصيحة والموافقة للأصحاب والإحسان والمداراة والإيثار والخدمة والألفة والبشاشة والكرم والمروءة والتودد والمودة والجود والعفو والصفح والحياء والسخاء والوفاء بالعهد والسكينة والوقار والثناء والدعاء إلى الله تعالى دائماً وحسن الظن وتصغير النفس واحتقار ما عندك واستعظام ما عند غيرك..." اهـ

"وأما المقامات فأولها الانتباه ثم التوبة ثم الإنابة ثم الورع ثم محاسبة النفس ثم الإرادة ثم الزهد ثم الفقر ثم الصدق ثم الصبر ثم الرضى ثم الإخلاص ثم التوكل. وأما الأحوال فمن ذلك المراقبة ثم القرب ثم الرجا ثم الخوف ثم الحياء وهو حصر القلب عن الانبساط ثم الشوق ثم الأنس ثم الطمأنينة ثم اليقين ثم المشاهدة وهي آخر الأحوال، وإليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"

ومن ذلك ما كتبه في إجازته للشيخ أبي سعيد المعصومي والشيخ بشارة الله، ولغرابة أسلوبها نقلتها بتمامها فقال: بعد الحمد والصلاة، من العلوم أن المقامات والاصطلاحات التي هي في طريقة الإمام الرباني مجدد الألف الثاني، مقررة، ينبغي أن تشاهد في كل درجة منها كيفيات وأحوال وأنواع وأسرار تلك الدرجة، وإلا فاختيار الطريقة عبث، فلم إضاعة العمر، وإن لم تكن المقامات العشر التي أولها التوبة وآخرها الرضا لازمة للباطن فما الفائدة من هذه الطريقة، فإنه يحصل في سير لطائف عالم الأمر كيفيات كثيرة ففي سير لطيفة القلب المفيدة لمراقبة الأحدية الصرفة بعد مراقبة المعية، يحصل الفناء والاستغراق وقطع العلائق والآمال وغيرها، وفي سير لطيفة النفس المفيدة لمراقبة الأقربية والمحبة، يحصل الاستهلاك والاضمحلال، وفناء أنا وغيره، وفي سير عالم الخلق ينهل الفيض الإلهي على العناصر الثلاثة ما عدا عنصر التراب، وتوجد المناسبة لتجليات اسم الباطن والملأ الأعلى وتهذيب اللطيفة القالبية، وتحصل في الحقائق السبعة، وسعة الأنوار وبداهة الأمور النظرية، وزيارة حضرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وثبوت أذواق المحبة الذاتية، فإن أدرك سالك هذه الطريقة هذه العلوم والمعارف فهو مبارك، وإلا فقد اكتسب العجب والأنانية فويل له. وكل شيء يحصل في الصحبة من هذه الحالات فهو حسن، وإلا فهو تحقير للطريقة، ويلحق المشايخ من ذلك الشخص عار، والمريدين عجب وترذيل للطريق، ودعوى الانتظام في سلك المشايخ هداهم الله سبحانه إلى رضائه واشتياق لقائه آمين. وإذ قد وصل ولله الحمد صاحباي حضرة المولوي بشارة الله وحضرة الحافظ أبو سعيد سلمهم الله تعالى وجعلهم سرجاً لإشاعة أشعة الطريقة لهذه المقامات، والمرجو من الله سبحانه وتعالى أن يتفضل على بقية أصحابي الأعزاء وأحبابي وعلى هذا الدليل المقصر، بالتوفيق للاستقامة واتباع السنة ومحبة المشايخ، والترك والانزواء، واليأس من الخلق، والترقي لهذه الحالات، فإني مع تمام الخجل أكتب لأن المرشدين يكتبون في الإجازات هاتين الكلمتين، فأقول: يد هذين العزيزين التي هي أحسن من يدي، هي يدي، وبيعة خدمتهم التي هي أقوى ذريعة للسعادة والنجاة بيعتي، بارك الله بهما، بشرط أن يعرضوا عن أهل الدنيا، ويلازمون بقدم مكسورة باب الحق، مع صدق الوعد الكريم المطلق جل سلطانه، فإنه أركان طريقي وتربية توجهات حياتي، اللهم وفقتني وإياهم لمرضاتك ومرضات حبيبك صلى الله عليه وسلم، واجعل آخرتنا خيراً من الأولى آمين...."


قبر الشيخ غلام علي عبد الله الدهلوي

"وكان رضي الله عنه يقول: إن أحب الشهادة في سبيل الله تعالى ولكن أتذكر ما حصل للناس في شهادة شيخنا مرزا جان جانان رضي الله عنه من البلاء، إذ قحطوا ثلاث سنين، ومات بذلك خلق كثير، ووقع قتل وحروب لا تعد، فأترك سؤالها. وقد غلب عليه البواسير آخر مرضه، وكان الشيخ أبو سعيد وقتئذ في مدينة لكنهو فأرسل إليه في برهة يسيرة كتباً كثيرة يحقه على الحضور ليكون قائماً مقامه، وأن يستخلف مكانه نجله الشيخ أحمد السعيد أحد خلفاء حضرة مرشد المكرم، فترك أهله وأتى مخفا، فلما تشرف بلقائه قال له: كان مرادي إذا لقيتكم أبكى كثيراً ولكن أتيتني في وقت لا يمكنني فيه ذلك، ثم التفت بكليته إليه وأوصى له بخلافة الإرشاد العام. وكان من عادته المستمرة أنه إذا حصل له شائبة مرض أوصى قلماً وأكد لساناً بمداومة الذكر وتحسين الأخلاق وتقوية النسبة الشريفة، ومجاملة المعاملة مع الجميع، والإعراض عن الاعتراض بلو ولم على مجاري القضاء، وملازمة الاتحاد مع الاخوان، والتفرغ للعبادة مع الفقر والقناعة والرضى والتسليم والتوكل، فجدد هذه المرة تلك العادة المستمرة، وقال: إذا قضي الأمر فاحملوني إلى المكان الذي فيه الآثار النبوية التي في جامع دهلي، واطلبوا لي من صاحبها الشفاعة وأوصاهم أن ينشدوا أمام جنازته هذين البيتين:

وفدت على الكريم بغير زاد = من الحسنات والقلب السليم
فحمل الزاد أقبح ما رأينـا = إذا كان القدوم على الكريم

فلما كان وقت الإشراق من يوم الاثنين ثاني عشر صفر أمر بحضور أبي سعيد من داره سريعاً، فنظر إليه ثم وضع رأسه في صدره، وهو جالس على هيئة الاحتباء وقتئذ، فالتحق بالرفيق الأعلى، فغسل بأمواه الأنوار، وكفن بأثواب الأسرار، وحمل على أطراف الأصابع إلى المسجد الجامع، وقد انفضت لأجله المجامع وهرعت لرباطه الناس حتى غصت بالمشيعين الشوارع، فصلى عليه الإمام أبو سعيد ووضعوه تبركاً عند الآثار النبوية، ثم أتوا به الخانقاه فدفنوه في الجانب الأيمن من البقعة المباركة التي ضمت المرحوم مرشده الشهيد. وكان لمشهده في دهلي يوم مشهور، وأرخ أدباء الهند ذلك بتواريخ متعددة أحسنها تاريخان، أحدهما نثر وهو "نور الله مضجعه" وثانيهما ضمن مقطوعة بالفارسية وهو قوله: "في روح وريحان وجنات النعيم" فنظمتها تبركاً به فقلت في الأول:


حضرة القطب الدهلوي = رغب الحق مرجعـه
فلـهـذا إذ أرخــوا = نور الله مضـجـعـه



وقلت في الثاني:


الدهلوي الشاه عبد اللـه = ذا الغوث الـعـظـيم
أرخه في روح وريحان = وجـنـات الـنـعـيم



ومن ذلك بيت فيه تاريخ ولادته وحياته ووفاته قدس سره:


بمظهر جود جاء مدة عـيشـه = إمام قضى قل نور الله مضجعه



وله رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبه ومثواه خلفاء حنفاء هم علماء الأولياء، وأولياء العلماء، ملؤوا الخافقين إرشاداً والثقلين إمداداً. انتهى بتصرف."

 

(الورّاق: حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - لعبد الرزاق البيطار-ص410-415)

 
 
  3100194 visitors