"هذا ولو أردت أن أذكر عشر معشار ما مدح به ذلك الأستاذ، والقطب الأوحد الفرد الملاذ، لخرجت عن منهج السداد، وتحولت عن الإيجاز الذي هو المراد، وعلى كل فشهرته في العالم كافية، وسيرته المحمودة سنية وافية، وقد أخذ سيدي الوالد عنه، وحصل جل نفعه طريقة وعلماً منه، ولازمه إلى انتهاء أجله، وكان غاية مراده ومنتهى أمله، وكان للسيد المترجم به عناية قوية، ومحبة أبوية، ولما قرب ارتحاله رضي الله عنه من دار الفناء، إلى دار البقاء، وآن أوان إجابة روحه الزكية، لأمر ربها راضية مرضية، كأن الله تعالى كشف له عن ذلك، فأمر بحفر القبر المبارك، وعين مكانه في الصالحية خارج دمشق الشام، في تل تحت جبل قاسيون مقابل مقام الأربعين، فاستقاموا في حفره ثلاثة أيام، فبعد أن تم الحفر بيوم أو يومين ابتدأه المرض يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر ذي القعدة عام ألف ومائتين واثنين وأربعين. وتوفي ليلة الجمعة رابع عشره بالطاعون، فجمع الله له بين شهادات متعددة:
الطاعون والجمعة والغربة وطلب العلم، ودفن في القبر الذي أمر بحفره. وقد بنى حضرة السلطان الأعظم والخاقان الأفخم السلطان عبد المجيد خان، رحمه الله رحمةً دائمة إلى آخر الزمان، على قبره الشريف بناء جميلاً مشتملاً على قبة على القبر الشريف ومسجداً وعدة مقاصير للمريدين المتجردين، ومطبخاً وبركة عظيمة للماء، وجميع ذلك في محله ظاهر معروف مشهور مقصود للزائرين والواردين. وقد رثاه الفاضل النبيل، جناب الشيخ إسماعيل بقوله:
والمراثي في حقه كثيرة، وهي به حقيقة وجديرة، أضربنا عن ذكرها خوف التطويل، على أن كثرة المدح، وإطالة الشرح في حقه أمر قليل" اهـ
.
ما للجبال الراسيات تميل = ما للبدور يرى بهن أفول
ما للظلام يجر ذيل ردائه = فوق الضياء فلم يقله مقيل
ومخدرات الحر تنثر لؤلؤاً = من دمعها فوق الخدود يسيل
والورق أكثرت النواح مخضباً = كف البطائح دمعها المهمول
والدهر ألبس أهله حلل العنا = وعلا رياض الشام منه ذبول
والحزن قام على منابر حينا = أبداً خطيباً لا يكاد يزول
والأرض ترجف والنوائب أدهمت = والبين يهجم والخطوب تجول
هذا مصاب ليس يحدث مثله = تالله كم دهشت لديه عقول
ماذا بدا في الكون يا أهل النهى = هل مخبر عني الشكوك يزيل
هل كان يوم الصعقة الأولى هل = دهم الورى بالصور إسرافيل
أم زلزلت تلك القيامة وانطوت = حجب الحياة وعاجل التهويل
أفصح لنا عما بدا يا ذا الحجا = فغدا لسان الحال منه يقول
قف وانتبه ما قد بدا فيما استوت = فيه الخلائق عالم وجهول
قد مات كهف العلم سلطان التقى = حبر له المعقول والمنقول
سند السيادة والرياسة للورى = قاصٍ ودانٍ فضله مأمول
صدر المجالس إن بدا فكأنه = النعمان يروي عن عطا ويقول
بحر أفاض على الورى مدراره = فروى العطاش زلاله المعسول
وتفجرت منه ينابيع حلا = منها لوراد الهدى التعليل
بكت العيون على فراقك سيدي = وبكاؤها لك بالدماء قليل
وافى ضياء الدين بدر زمانه = قطب الوجود وللعلا إكليل
عند المليك الحق قد أضحى له = في مقعد الصدق الأجل مقيل
هيهات إن جاد الزمان بمثله = إن الزمان بمثله لبخيل
يا خالداً في حضرة القدس التي = كم طاح دون فنائها مقتول
أدناك ربك منزلاً ترقى به = فلك الشهود وكم بذاك نزول
وأباح روحك حضرة قدسيةً = عند المهيمن ما لها تبديل
وأناخ سحب الفضل تهطل دائماً = بفناء رمسك لا تكاد تزول
ما قال إسماعيل يرثي سيداً = ما للجبال الراسيات تميل
(حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر لعبد الرزاق البيطار - ج1 ص1216 - 1256)