قتل النفس في الجهاد الاكبر
الهوام أي الحشرات التي تزحف على الأرض. لا بد أن يأتي أذى من جهتهم. لذلك واجب على الإنسان أن يترك صفة العوام. عندما يترك صفة العوام معناه ترك صفة الهوام. لم يعد يؤذي. العوام لا بد أن يؤذوا إما باليد وإما باللسان. والاجتهاد فرض وواجب حتى نترك صفات الهوام الموجودة والمختزنة والمركزة في أنفسنا. النفس في الإنسان تمثل كل الهوام. كل أنواع الهوام. لذلك وجب قتلها. وإن لم تقتلها قتلتك. فالطريقة، أصل الطريقة هو أن يكون القصد قتل النفس. الجهاد الأكبر ما هو هدفه؟ محاربة النفس. إما أن تأخذها أسيرة وإما أن تقتلها. إذا تركتها فإنها يوماً من الأيام ستلدغك وتقتلك أو تأكلك.
لذا فإن كل الطرق، كل الديانات جاءت لهذا المقصد: قتل النفس في الجهاد الأكبر. والناس على درجات في الجهاد الأكبر. بعضهم همتهم عالية جداً. وهؤلاء هم ذوي الهمم العالية. والناس، عامة الناس، هم عديمو الهمة. لدى عامة الناس لا توجد همة. أول مرتبة عندما يدخل الإسلام تتحرك همته نحو نفسه. يقال له إنك في أول مرتبة (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). أي أن يقدر المرء كل مؤمن كما يقدر نفسه. بذلك ترتفع همته. دون تلك المرتبة فإنه يقدر نفسه ويفضل كل شيء لنفسه. هذا ليس بمؤمن. الذي همه نفسه لا يكون مؤمناً. حتى إذا دخل دائرة الإيمان، دائرة الإسلام فإنه سيلتزم بأن يحب لنفسه ما يحب لغيره.
أما ذوو الهمم العالية فإنهم يقدمون سائر المؤمنين على نفسهم. في أول مرتبة الذي يكون عنده لقمة فإنه يأكل نصفها ويعطي النصف الآخر. في مرتبة ذوي الهمم العالية لا يأكل بل يعطي اللقمة بكاملها لأخيه. أي أنهم يؤثرون على أنفسهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر : 9).
صاحب الهمة العالية يقدم سائر الإخوان على نفسه. هو يقول لو أنا مت لا بأس لأن حياة الآخر أوجب فليحي هو. في حرب بين الروم والمسلمين كان أحد الصحابة يدور على جرحى المسلمين ليسقيهم الماء. وكان كلما اقترب من أحدهم ليسقيه سمع هذا أنين جريح من إخوانه فأمسك فمه عن الشرب وأشار إلى الجريح الآخر بما معناه خذ الماء إليه. وطاف الصحابي على ثلاثة حتى إذا وصل إلى الثالث وجده قد فارق الروح. وعاد إلى الثاني فوجده فارق أيضاً وعاد إلى الأول فوجده قد فارق الروح أيضاً. الثلاثة لم يشربوا وكلهم وصلوا إلى الملأ الأعلى.
النفس لا ترضى أبداً أن تقدم عليها أحد. حتى أنها لا تريد مساواتها بالآخرين. وهي تقول دوماً أنا في الأول. أنا في المقدمة لأني الأفضل. ولا أحب لأحد أن يكون قريباً من منزلتي. العرش لي. هذا هو نزاع العبد مع ربه. لا يرضى أن يقول : أنا العبد أنت الرب. بل يقول أنا أنا وأنت أنت. من هنا نسير حتى نصل في محاربة النفس إلى قتلها فيصبح كل ما نملك لإخواننا للمسلمي نو ليس لنا لا شيء.
تلك هي التربية. وهذا هو القصد في الطرق العلية. لكن البعض قلبوا وغيروا وبدلوا فأخرجوا الطرق عن مسارها الأصلي ووضعوا توجيهات مغايرة لتلك التي كان عليها المشايخ العظام. وأكثرهم متوجهين إلى الدنيا. معظمهم لأجل دنياهم التي لا قدر لها. من سعى للدنيا فقد خسر. خسر الدنيا والآخرة. لو سعى لله فإنه يفوز بالدارين. وحسب الحديث الشريف (من عمل لأخرته كفاه الله أمر دنياه). الذي تكون همته متوجهة إلى الآخرة فإن الله يكفيه مؤونة الدنيا. الدنيا تكون سهلة عليه وأهلا له ولا تكون صعبة. الذي تكون حياته لله فإن كل شيء يحيطه من الإنس والجن والنبات والحيوان وحتى الحجارة تكون في خدمته. لأن ذاك الرجل هو في خدمة مولاه فإن جميع الكائنات مأمورة بأن تعمل لأجله وأن تعطيه ما يحتاج. بالعكس فإن الذي يحارب ربه فإن كل شيء يحاربه. (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) (الأعراف : 58). في الماضي لم يكن الزرع ولا الأشجار في حاجة لما تحتاجه الآن من أنواع السموم لأجل قتل الحشرات والآفات التي تتسلط على الزرع والشجر. فان لم ترش بهذه السموم فإنها لا تخرج شيئاً. كما في الآية الكريمة (والذي خبث لا يخرج إلا نكدا). أي أنه لا يخرج إلا قسراً لأن هذه لا تحب أن تعطي الإنسان الجاحد لربه. الذي يكون صالحاً يكون كل شيء في خدمته. لكن قد يكون البلاء عم الآن – اللهم ارفع البلاء عن الأمة – ورفعه لا يكون إلا إذا بدّل الناس وجهتهم إلى ربهم وإلى عبادة الرب. وما لم يغيروا فلن يتغير أي شيء.
صاحب جهاد النفس تكون أطرافه عوناً له. كل شيء يريد أن يعينه. و الخبيث (خبيث الطبع) فإنه لا يضع يده على شيء إلا أفسده. ولا يمشي إلا وتعثر ولا يعمل شيئاً إلا وخسر. والآن عم البلاء على البلدان جميعاً. هناك حالات شذوذ لكنها نادرة . لكن طريق جهاد النفس صعب. لأن النفس لا ترضى. النفس خبيثة الطباع. على الدوام تنازع خالقها. تنازع مع الله جل وعلا. تقول "أنا" وليس أنت. لا إله إلا أنا. هذا النزاع قائم من اليوم الذي خلق الله النفس. قالت هذه "من أنت من أنا؟ أنا أنا وأنت أنت". رفضت أن تذل للرب خالقها، فهي جبارة.
فساد العالم سببه محاربة الخلق لله، لخالقهم. هذا هو سبب الفساد لا غير. لو بدأ الإنسان يستفيق فإن ذلك سيكون بمثابة الميزان أو المعيار. معيار الشيء توجه الناس في أدنى مرتبة للدين. عندما يتوجهون ستتغير الأحوال. نرجو الله أن يغيرها وأن يجعل قلوبنا تتوجه نحو حضرة الحق. أعلى مرتبة هي الطرق العلية وبالأخص الطريقة النقشبندية. لو عاهدوا الله مثلما يعاهدون عبداً من عباده كانت الدنيا كالجنة. لكنهم يعظمون – ولو بالكلام – عبداً من عباد الله، ولا يعطون هذا التعظيم لرب هذا العبد وقد ملئوا بتعظيمهم الدنيا.
الله يجعل قلوبنا متوجهة لحضرته سبحانه تعالى.
|